الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فإنّ النصيحة شعيرة إسلامية عظيمة، حث الشرع عليها وأوجبها؛ وعدّها عماد الدين وقوامه، كما في حديث تميم بن أوس الداري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الدين النصيحة "ثلاثاً" قلنا: لمن؟ قال: "لله، ولكتابه، ورسوله، وأئمة المسلمين، وعامتهم". [أخرجه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وأحمد، إلا قوله "ثلاثاً" فلم يخرجها مسلم. وثبت الحديث عن أبي هريرة، وابن عباس، وابن عمر رضي الله عنهم من طرق، وانظر "إرواء الغليل" للإمام الألباني (1/62 – 63) برقم (26)]
وهذا الحديث عده جماعات من أهل العلم أحد أرباع الإسلام، أي: أحد الأحاديث الأربعة التي تجمع أمور الإسلام، وتعقب ذلك النووي بأنّ مدار الإسلام كله على هذا الحديث وحده.
وسبب ذلك أنّ النصيحة تشمل خصال الإسلام والإيمان والإحسان التي جاءت في حديث جبريل عليه السلام الطويل، لذلك سمى الشرع النصيحة ديناً، قال ابن رجب - رحمه الله -: "فإن النصح لله يقتضي القيام بأداء واجباته على أكمل وجوهها، وهو مقام الإحسان، فلا يكمل النصح لله بدون ذلك، ولا يتأتى ذلك بدون كمال المحبة الواجبة والمستحبة، ويستلزم ذلك الاجتهاد في التقرب إليه بنوافل الطاعات على هذا الوجه، وترك المحرمات والمكروهات على هذا الوجه أيضاً" اهـ.
وفي الصحيحين عن جرير بن عبد الله البجلي - رضي الله عنه - قال: "بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة،والنصح لكل مسلم".
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "حق المسلم على المسلم ست"وذكر منها: "وإذا استنصحك فانصح له". رواه مسلم
والنصيحة هي: إرادة الخير للمنصوح له بالقول على سبيل الإصلاح، وأصل النصح: الخلوص، والموائمة والإصلاح يقال: نصحت العسل؛ إذا خلصته من الشمع، ونصحتُ الثوب إذا أصلحته بالخياطة.
وعكس النصيحة الغش والخديعة، وهما من أوصاف المنافقين، فالمؤمنون ناصحون صادقون، والمنافقون مخادعون غاشّون لا يؤتمنون.
لمن تكون النصيحة:
أولاً:النصيحة لله تعالى بتوحيده، ووصفه بصفات الكمال والجلال، وتنزيه عما يضادها ويخالفها، وتجنب معاصيه، والقيام بطاعته ومحابه بوصف الإخلاص، والحب فيه، والبغض فيه، وجهاد من كفر به تعالى، والدعاء إلى سبيله، والحث عليه.
ثانياً: النصيحة لكتابه؛ بالإيمان به، وتعظيمه، وتنزيهه، واعتقاد أنه كلامه غير مخلوق، وتلاوته حق تلاوته، والوقوف مع أوامره ونواهيه، وتفهم علومه وأمثاله، وتدبر آياته، والدعاء إليه، وذب تحريف الغالين وطعن الملحدين عنه، والعمل بمحكمه، والإيمان بمتشابهه.
ثالثاً: النصيحة لرسوله - صلى الله عليه و سلم -؛ بالإيمان به وبما جاء به، وتوقيره وتبجيله، ومحبته أكثر من النفس والولد والوالد، والتمسك بطاعته، وإحياء سنته، واستنشار علومه ونشرها، ومعاداة من عاداه، وموالاة من والاه ووالاها، والتخلق بأخلاقه، والتأدب بآدابه، ومحبة آله وأصحابه.
رابعاً: النصيحة لأئمة المسلمين؛ بمعاونتهم على الحق، وطاعتهم فيه، وتذكيرهم به، وتنبيههم في رفق ولطف، ومجانبة الوثوب والخروج عليهم، والدعاء لهم بالتوفيق، وحث الناس على ذلك.
خامساً: النصيحة لعامة المسلمين؛ بإرشادهم إلى مصالحهم، وتعليمهم أمور دينهم ودنياهم، وستر عوراتهم، وسد خلاتهم، ونصرتهم على أعدائهم، والذب عنهم، ومجانبة الغش والخديعة والحسد لهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه.
[وانظر "جامع العلوم والحكم" لابن رجب ص(101)، و"شرح النووي على صحيح مسلم" (1/116)]
حكم النصيحة:
النصيحة واجبة على كل مسلم؛ لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - عظّم من أمرها، ولأنها من باب الأمر بالمعروف، ومن الحقوق بين المسلمين، لكنها مقيدة بالاستطاعة؛ لقوله تعالى: (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا) [البقرة : 286] ولحديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه في صحيح مسلم: "بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة،والنصح لكل مسلم" وفي رواية:"على السمع والطاعة - فلقنني فيما استطعت - والنصح لكل مسلم".
شروط النصيحة:
أولاً: الإخلاص لله تعالى؛ وهو إحسان النية، وقصد رضا الله فيها. قال تعالى: "وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصينَ لَهُ الدِّينَ". والنصيحة من جملة الأعمال الصالحة، فهي عبادة محضة، فيشترط في صحتها وقبولها الإخلاص لله تعالى. وكم من نصيحة ما نفعت، وما آتت أكلاً، وما أثمرت، رغم قيام صاحبها بشروطها وآدابها، إلا بسبب ترك الإخلاص لله فيها.
ثانياً: أن تكون بناء على حكم شرعي؛ وجوباً، أو تحريماً، أو كراهة، أو ندباً، أو إباحة. فإذا كانت النصيحة بأمر يخالف الشرع فلا تسمى نصيحة؛ وإنما تكون غشاً وخديعة، مثل من ينصح أحدهم بحلق اللحية، أو أكل الربا، أو ينصح بخلع الحجاب، أو سفر المرأة بغير محرم، أو الاختلاط بين الجنسين، أو غيرها مما يخالف الشرع ويصادم الأدلة.
ثالثاً: أن يكون الناصح عالماً بما ينصح به علماً شرعياً، كي لا يوجب شيئاً مندوباً او مباحاً، أو يحرم حلالاً، وإلا فإنّه يقول على الله بغير علم، ويقفو ما ليس له به علم. قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) [الأعراف : 33 ].
رابعاً: أن تكون النصيحة في أمر اتفق العلماء على حكمه الشرعي، أو الراجح فيه واضح وظاهر لقوة الدليل، وسلامته عن المعارضة بمثله أو ما هو أقوى منه، أو الخلاف فيه ضعيف بين أهل العلم، أو كان يتوصل بفعله إلى محرم أو مكروه، أو ترك واجب، أو أنّ مفسدته أعظم من مصلحته.
خامساً: أن يقصد الناصح نفع المنصوح والخير له، لا التشهير فيه، فكم من نصيحة انقلبت إلى فضيحة وشر وسوء بسبب فقد هذا الشرط.
سادساً: أن تكون النصيحة في السرّ إذا كانت المخالفة في السرّ؛ ولم تكن معلنة مظهرة، لأنّها - أي النصيحة - والحال كذلك أدعى لقبول المنصوح، أما إذا كانت النصيحة معلنة مشهرة في شيء مستور فإنها توبيخ وتعيير وتشهير، وتؤدي إلى إفساد ذات البين.
قال ابن رجب في "الفرق بين النصيحة والتعيير":
"قال الفضيل: "المؤمن يستر وينصح والفاجر يهتك ويُعيِّر" فهذا الذي ذكره الفضيل من علامات النصح والتعيير ، وهو أن النصح يقترن به الستر والتعيير يقترن به الإعلان. وكان يقال: من أمر أخاه على رؤوس الملأ فقد عيَّره" اهـ.
أما إذا كانت المخالفة معلنة مشهرة من صاحبها وعلم بها الناس واشتهرت عنه؛ بالكتابة أو القول، فإنّ النصيحة له ولعموم المسلمين تكون بالتحذير منها - أي المخالفة - علناً، وليس ذلك من الغيبة في شيء، إذا اقترن بحسنِ القصد؛ بياناً للحق، ونصحاً للأمة، وتجردِ صاحبه عن العيب والذم والنقص، والتشفي في المردود عليه.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله:
"ولا فرق بين الطعن في رواة حفَّاظ الحديث ولا التمييز بين من تقبل روايته منهم ومن لا تقبل، وبين تبيين خطأ من أخطأ في فهم معاني الكتاب والسنة، وتأوَّلَ شيئاً منها على غير تأويله، وتمسك بما لا يتمسك به ليُحذِّر من الاقتداء به فيما أخطأ فيه، وقد أجمع العلماء على جواز ذلك أيضًا.
ولهذا نجد في كتبهم المصنفة في أنواع العلوم الشرعية؛ من التفسير، وشروح الحديث، والفقه، واختلاف العلماء، وغير ذلك، ممتلئة بالمناظرات وردِّ أقوال من تُضَعَّفُ أقواله من أئمة السلف والخلف، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم.
ولم يترك ذلك أحد من أهل العلم، ولا ادعى فيه طعناً على من ردَّ عليه قولَه، ولا ذمَّاً ولا نقصاً، اللهم إلا أن يكون المصنِّف ممن يُفحش في الكلام ويُسيءُ الأدب في العبارة، فيُنكَر عليه فحاشته وإساءته دون أصل ردِّه ومخالفته، إقامةً للحجج الشرعية والأدلة المعتبرة. وسبب ذلك أن علماء الدين كلُّهم مجمعون على قصد إظهار الحق الذي بعث الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولأنْ يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمته هي العليا، وكلُّهم معترفون بأن الإحاطة بالعلم كله - من غير شذوذ شيء منه - ليس هو مرتبة أحد منهم، ولا ادعاه أحد من المتقدمين ولا من المتأخرين، فلهذا كان أئمة السلف المجمع على علمهم وفضلهم يقبلون الحق ممن أورده عليهم وإن كان صغيراً، ويوصون أصحابهم وأتباعهم بقبول الحق إذا ظهر في غير قولهم ... ومن كانت هذه حاله فإنه لا يكره أن يُردَّ عليه قولُه، ويتبين له مخالفته للسنة، لا في حياته ولا في مماته ... فحينئذٍ ردُّ المقالات الضعيفة وتبيين الحق في خلافها بالأدلة الشرعية ليس هو مما يكرهه أولئك العلماء، بل مما يحبونه ويمدحون فاعله ويثنون عليه .
فلا يكون داخلاً في الغيبة بالكلية؛ فلو فرض أن أحداً يكره إظهار خطئه المخالف للحق فلا عبرة بكراهته لذلك؛ فإنَّ كراهة إظهار الحق إذا كان مخالفاً لقول الرجل ليس من الخصال المحمودة، بل الواجب على المسلم أن يحب ظهور الحق ومعرفة المسلمين له، سواءٌ كان ذلك في موافقته أو مخالفته ... وأما بيان خطأ من أخطأ من العلماء قبله إذا تأدب في الخطاب، وأحسن في الرد والجواب، فلا حرج عليه ولا لوم يتوجه إليه، وإن صدر منه الاغترار بمقالته فلا حرج عليه ... وقد بالغ الأئمة الوَرِعون في إنكار مقالات ضعيفة لبعض العلماء وردِّها أبلغ الردِّ، كما كان الإمام أحمد ينكر على أبي ثور وغيره مقالات ضعيفة تفردوا بها، ويبالغ في ردها عليهم، هذا كله حكم الظاهر.
وأما في باطن الأمر: فإن كان مقصوده في ذلك مجرد تبيين الحق، ولئلا يغتر الناس بقالات من أخطأ في مقالاته؛ فلا ريب أنه مثاب على قصده، ودخل بفعله هذا - بهذه النية - في النصح لله ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم .
وسواء كان الذي بين الخطأ صغيراً أو كبيراً فله أسوة بمن رد من العلماء ...
وأما إذا كان مرادُ الرادِّ بذلك إظهارَ عيب من ردَّ عليه، وتنقُّصَهُ، وتبيينَ جهلِه وقصورِه في العلم، ونحو ذلك، كان محرماً، سواء كان ردُّه لذلك في وجه من ردِّ عليه أو في غيبته، وسواء كان في حياته أو بعد موته، وهذا داخل فيما ذمَّه الله تعالى في كتابه، وتوعد عليه في الهمز واللمز، وداخل أيضاً في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه، لا تؤذوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته". [أخرجه أحمد وأصحاب السنن الأربعة وهو في صحيح الجامع (7984)]
وهذا كله في حق العلماء المقتدى بهم في الدين، فأما أهل البدع والضلالة ومن تشبه بالعلماء وليس منهم، فيجوز بيان جهلهم، وإظهار عيوبهم، تحذيراً من الاقتداء بهم، وليس كلامنا الآن في هذا القبيل" اهـمنكتاب "الفرق بين النصيحة والتعيير"
قال الشيخ العلامة ربيع بن هادي المدخلي حفظه الله في "النقد منهج شرعي" ص(28) تعليقاً على كلام ابن رجب السابق:
"فهذه التحفظات، والاحتياطات، والوصايا، كلها إذا تكلمنا في أئمة الهدى، نتكلم معهم بأدب واحترام، وبإخلاص لله تبارك وتعالى، ولا يجوز أن نحكي كلامهم بقصد الذم، والتشهير، والطعن فيهم، فإنّ هذا لا يجوز أبداً، لكنّ أهل الباطل وأهل البدع تُبيّنُ مخازيهم، ولا تكون هذه الاحتياطات، وكذلك الجهلة المتشبهين بأهل العلم، وليسوا بعلماء، لابد من كشف عوارهم، وبيان جهلهم وضلالهم" اهـ.
قلت: وأما النصيحة للحكام والأمراء من ولاة الأمر فلا تكون إلا في السرّ؛ لحديث عياض بن غنم رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية، ولكن يأخذ بيده فيخلوا به، فإن قبل منه فذاك، وإلا كان قد أدى الذي عليه" [أخرجه أحمد في "المسند" وابن أبي عاصم في "السنة" وصححه الألباني في ظلال الجنة (1096 – 1098)]
قال الشيخ العلاّمة ابن عثيمين رحمه الله في "مقاصد الإسلام"(ص:393):
"فإن مخالفة السلطان فيما ليس من ضروريات الدين علناً، وإنكار ذلك عليه في المحافل والمساجد والصحف ومواضع الوعظ، وغير ذلك، ليس من باب النصيحة في شيء، فلا تغترَّ بمن يفعل ذلك، وإن كان عن حسن نية، فإنه خلاف ما عليه السلف الصالح المقتدى بهم، والله يتولى هداك".
و في الصحيحين واللفظ لمسلم عن أسامة بن زيد أنه قيل له: ألا تدخل على عثمان لتكلمه، فقال:"أتَرَوْنَ أني لا أكلّمُهُ إلا أسمعُكُُم؟ و الله لقد كلمته فيما بيني وبينَهُ، ما دون أن أفتح أمراً لا أحب أن أكون أولَّ من فتحه".
قال الإمام الألباني في تعليقه على مختصر مسلم(335):
"يعني المجاهرة بالإنكار على الأمراء في الملأ، لأن في الإنكار جهاراً ما يُخشى عاقبتُه، كما اتفق في الإنكار على عثمان جهاراً، إذ نشأ عنه قتلُه".
و قال ابن عباس عندما سُئِل عن أمر السلطان بالمعروف، ونهيه عن المنكر: "إن كنتَ فاعلاً ولا بدَّ ففيما بينك وبينَهُ". [جامع العلوم والحكم ص (103) ط: دار ابن حزم].
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.