[ذكر القاضي أبو الحسن محمد بن عبد الواحد الهاشمي عن شيخ من التجار قال: كان لي على بعض الأمراء مال كثير، فماطلني،
ومنعني حقي، وجعل كلما جئت أطالبه حجبني عنه ويأمر غلمانه يؤذونني، فاشتكيته إلى الوزير، فلم يفد ذلك شيئًا، وإلى أولياء الأمر من الدولة، فلم يقطعوا منه شيئًا، وما زاده ذلك إلا منعًا وجحودًا، فأيست من المال الذي عليه، ودخلني هم من جهته، فبينما أنا كذلك وأنا حائر إلى من اشتكي إذ
قال ليس رجل: ألا تأتي فلانًا الخياط -أمام المسجد هناك-
فقلت: وما عسى أن يصنع خياط مع هذا الظالم، وأعيان الدولة لم يقطعوا فيه؟ فقال لي: هو أقطع وأخوف عنده من جميع ما اشتكيت إليه، فاذهب إليه لعلك أن تجد عنده فرجًا.
قال: فقصدته غير محتفل في أمره فذكرت له حاجتي ومالي وما لقيت من هذا الظالم، فقام معي فحين عاينه الأمير قام إليه وأكرمه واحترمه وبادر إلى قضاء حقي الذي عليه فأعطانيه كاملاً من غير أن يكون منه إلى الأمير كبير أمر، غير أنه قال له: ادفع إلى هذا الرجل وإلا أذنت، فتغير لون الأمير ودفع إليَّ حقي.
قال التاجر: فعجبت من ذلك الخياط مع رثاثة حاله وضعف بنيته، كيف انطاع ذلك الأمير له، ثم إني عرضت عليه شيئًا من المال فلم يقبل مني شيئًا، وقال: لو أردت لكان لي من الأموال ما لا يحصى، فسألته عن خبره وذكرت له عجبي منه وألححت عليه فقال: إن سبب ذلك أنه كان عندنا في جوارنا أمير تركي من أعالي الدولة، وهو شاب حسن، فمر به ذات يوم امرأة حسناء قد خرجت من الحمام وعليها ثياب مرتفعة ذات قيمة، فقام إليها وهو سكران فتعلق بها يريدها على نفسها ليدخلها منزله، وهي تأبى عليه وتصيح بأعلى صوتها: يا مسلمين أن امرأة ذات زوج، وهذا رجل يريدني على نفسي ويدخلني منزله، وقد حلف زوجي بالطلاق أن لا أبيت في غير منزله، ومتى بت هاهنا طلقت منه ولحقني بسبب ذلك عار لا تدحضه الأيام ولا تغسله المدامع.
قال الخياط: فقمت إليه، فأنكرت عليه، وأردت خلاص المرأة من يديه فضربني بدبوس في يده فشج رأسي، وغلب المراة على نفسها، وأدخلها
منـزله قهرًا، فرجعت أنا فغسلت الدم عني، وعصبت رأسي وصليت
بالناس العشاء، ثم قلت للجماعة: إن هذا قد فعل ما قد علمتم فقوموا معي لننكر عليه، ونخلص المرأة منه، فقام الناس معي، فهجمنا عليه داره فثار إلينا جماعة من غلمانه بأيديهم العصى والدبابيس يضربون الناس، وقصدني هو من بينهم فضربني ضربًا شديدًا مبرحًا حتى أدماني، وأخرجنا من منزله ونحن في غاية الإهانة، فرجعت إلى منزلي وأنا لا أهتدي إلى الطرق من شدة الوجع وكثرة الدماء فنمت على فراشي فلم يأخذني نوم، وتحيرت ماذا أصنع حتى أنقذ المرأة من يده في الليل، لترجع فتبيت في منزلها حتى لا يقع على زوجها الطلاق، فألهمت أن أؤذن الصبح في أثناء الليل لكي يظن أن الصبح قد طلع فيخرجها من منزله فتذهب إلى منزل زوجها، فصعدت المنارة وجعلت أنظر إلى باب داره وأنا أتكلم على عادتي قبل الأذان، هل أرى المرأة قد خرجت ثم أذنت فلم تخرج، ثم صممت على أنه لم تخرج أقمت الصلاة حتى يتحقق الصباح، فبينا أنا أنظر هل تخرج المرأة أم لا، إذا امتلأت الطريق فرسانًا ورجالة وهم يقولون: أين الذي أذن الساعة؟ فقلت: هانذا، وأنا أريد أن يعينوني عليه، فقالوا: انزل، فنزلت فقالوا: أجيب أمير المؤمنين فأخذوني وذهبوا بي لا أملك من نفسي شيئًا، حتى أدخلوني عليه، فلما رأيته جالسًا في مقام الخلافة ارتعدت من الخوف وفزعت فزعًا شديدًا، فقال: ادن، فدنوت فقال لي: ليسكن روعك وليهدأ قلبك، وما زال يلاطفني حتى اطمأننت وذهب خوفي، فقال: أنت الذي أذنت هذه الساعة؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، فقال: ما حملك على أن أذنت هذه الساعة، فقلت: يؤمنني أمير المؤمنين حتى أقص خبري؟ فقال: أنت آمن، فذكرت له القصة، قال: فغضب غضبًا شديدًا، وأمر بإحضار ذلك الأمير والمرأة من ساعته على أي حال
كان، فأحضرا سريعًا، فبعث بالمرأة إلى زوجها مع نسوة من جهته ثقات ومعهن ثقة من جهته أيضًا، وأمره أن يأمر زوجها بالعفو والصفح عنها والإحسان إليها، فإنها مكرهة ومعذورة، ثم أقبل على ذلك الشاب الأمير فقال له: كم لك من الرزق؟ وكم عندك من المال؟ وكم عندك من الجواري والزوجات؟ فذكر له شيئًا كثيرًا، فقال له: ويحك أما كفاك ما أنعم الله به عليك حتى انتهكت حرمة الله وتعديت حدوده وتجرأت على السلطان، وما كفاك ذلك أيضًا حتى عمدت إلى رجل أمرك بالمعروف ونهاك عن المنكر فضربته وأهنته وأدميته؟ فلم يكن له جواب، فأمر به فجعل في رجله قيد وفي عنقه غل، ثم أمر به فأدخل في جوالق ثم أمر به فضرب بالدبابيس ضربًا شديدًا حتى خفت، ثم أمر به فألقي في دجلة فكان ذلك آخر العهد به، ثم أمر بدرًا صاحب الشرطة أن يحتاط على ما في داره من الحواصل والأموال التي كان يتناولها من بيت المال، ثم قال لذلك الرجل الصالح الخياط: كلما رأيت منكرًا صغيرًا كان أو كبيرًا ولو على هذا -وأشار إلى صاحب الشرطة- فأعلمني، فإن اتفق اجتماعك بي وإلا فعلى ما بيني وبينك الأذان، فإذن في أي وقت كان أو في مثل وقتك هذا، قال: فلهذا لا آمر أحدًا من هؤلاء الدولة بشيء إلا امتثلوه، ولا أنهاهم عن شيء إلا تركوه خوفًا من المعتضد، وما احتجت أن أؤذن في مثل تلك الساعة إلى الآن.